هناك أشياء ..لا تُقال ليس لأنني لا أريد البوح لها ,ولكن لأنني أعلم أنني حتى لو تكلمت, لا أحد سيفهم تماماً ماذا يحصل في داخلي ,كل ما أشعر به , أعيشه لوحدي فقط.
الضغط , الخوف , الشعور بالتآكل البطيء من الداخل , كل ذلك أصبح جزءاً لا يتجزأ مني , مثل ظلي .
بمناسبة شهر “يونيو” شهر التوعية الصحة النفسية للرجال , قررت كتابة هذا المقال , ليس لأنني وجدت كل الأجوبة , ولكن ربما يرى مقالي أحدهم , ويشعر بأنه ليس لوحده..
لا أكتب هذه الكلمات لكي ألفت النظر إليّ بتاتاً , وهذه الكلمات ليست نوعاً من الدراما والتراجيديا الشخصية . إذا كانت نظرتكم أن هذا هو هدفي الأسمى يرجى إغلاق المقالة وعدم العودة لها مستقبلاً..
لا أكتب هذه الكلمات لكي أقول لكم ” افتحوا قلوبكم , تكلموا”
لا على العكس , انا من الناس الذين أغلقوا قلوبهم بمئات الأقفال, لأن التجارب علمتني أن أوقات المشاركة تؤلم أكثر من الصمت نفسه.
أكتب هذه الكلمات لكي أجعل الألم يتسرب قليلاً من صنبور الروح , ربما الكتابة هي الشيء الوحيد الذي لم يخيب ظني في غالب الأحيان.

لماذا كنتُ صامتاً ؟
اليوم أدخلُ العقد الثالث من عمري , حاملاً معي عدداً كبيراً من المشاعر والتجارب الشخصية التي لطالما كتمتها بل وقمعتها في سنين حياتي السابقة , وبدأت أشعر مؤخراً بمشاعر غريبة , شيء ما ينذر بأنني لست بخير , ربما ضغط , حزن , خوف , أو إحساس عميق بالفشل والخسارة , وربما كلها جميعاً .
ثلاثون عاماً، وما زلتُ أحاول أن أتعلم أن لا أؤذي أحداً بملئ الإرادة، حتى عندما أكون خائفاً ,أو ضائعا, أو مضطراً ,ولو حدث ذلك أن أحاول التكفير عما فعلت,,ثلاثون عاماً تعلمتُ فيها أن النضج لا يأتي مع العمر فقط،بل مع الخسارات، والخذلان، والليالي التي اضطررتُ أن أواسي نفسي فيها بصمت
حيث عرفت أن الصمت أحياناً أصدق من آلاف الكلمات،وأن بعض الحكايات لا تُروى، لا لأنها لا تستحق،بل لأنها كانت أعمق من أن تُفهم ، ربما هذه كانتْ نظرتي فقط ..

انا لستُ ضعيفاً .. أنا مجرد إنسان.
سيقرأ البعض هذا المقال , ظانّين أنني مجرد شخص ضعيف , ففي عالمنا , وفي مجتمعاتنا الشرقية عموماً , تنتشر فكرة أن الرجال لا يبكون, الرجال أقوياء و أن رقة القلب والمشاعر الجياشة للنساء فقط , تُزرع هذه الأفكار في عقول الأطفال منذ نعومة الأظفار , ويكبرون حاملين معهم مشاعرهم المكبوتة , و يغرقون في دواخلهم بدموعهم التي لم يسكبونها عندما احتاجوا أن يفعلوا ذلك ,يكبرون حاملين معهم أقنعة تخفّوا خلفها عندما احتاجوا أن يظهروا للعلن , وتنتقل هذه العقد النفسية من جيل إلى جيل , دونما تجد أحداً ما يوقفها , دون أن يقف رجل ما ويقول ” أنا إنسان , أنا أشعر , أنا لست حجراً”..

أنا صاحب شخصية حساسة Highly Sensitive Person :
هذه الشخصية تولد بنظام عصبي حساس أعلى من غيرها , هو ليس مرضاً , ولا ضعفاً , بل نمطاً عصبياً , هذا ما يقود صاحب هذه الشخصية أن يشعر بالأشياء من حوله بشكل أعمق, ينزعج من الضجيج , والظلم ,و القسوة , والكراهية , قد يقول قائل : ” من يحب الضجيج والظلم والقسوة والكراهية ؟ هذا مجرد كلام فارغ ” أقول لك طبعاً نسبة كبيرة من البشر وربما غالبهم يكرهون هذه الأشياء , ولكنني أشعر بها بشكل أعمق , أنا أرى كل شيء تقريباً من وجهة نظر الآخرين , وهذا يجعلني أتمنى عالماً أقل ظلماً وعنفاً , ولأنني أحس بالألم حتى ولو لم يكن ألماً شخصياً , فأرفض أن أكون سبباً في ألم أحد ما , بل وقد أتألم وأندم سنيناً طويلة لو فعلتُ ذلك.
في معظم الأحيان أعاني من الإرهاق النفسي بسرعة لأنني ببساطة أحلل كل شيء لا إرادياً , وكل تفصيل صغير يشد انتباهي , أشعر بالآخرين , وتقلبات مزاجهم , ربما كلمة واحدة تقولها بنبرة صوت مختلفة أعرف من خلالها أنك لا تشعر بخير أو أنك منزعج مني مثلاً.
يقالُ أن نسبة قليلة من البشر خُلِقوا بهذه الحساسية ليكونوا “راداراً” للمجتمع , حاملينَ تعاطفاً عميقاً تجاه الآخرين وذكاءً عاطفياً كبيراً.. ترى هذه الفئة الجمال والتفاصيل , وتترجمها فنياً وشعرياً أو وجدانياً , وهذا ما يجعل هذه الفئة ميالة للفن بكافة أشكاله , مثل الرسم والشعر والموسيقى , ويقال أن كثيراً من الشخصيات المؤثرة والمعروفة كانوا من أصحاب الشخصية الحساسة مثل : العالم آلبرت آينشتاين , مارتن لوثر كينغ , الأميرة ديانا , عالم النفس الشهير كارل يونغ .

أكثر شيء يخيفني ؟ أن يتم نسياني:
من أكثر الأفكار الموحشة والتي تعكر صفو حياتي في الكثير من الأوقات هي أن يتم نسياني عندما أرحل عن وجه هذا العالم لأنني أرى كيف ينسى الناس أحبابهم بعد فترة من الزمن وكأنهم لم يكونوا ,ويكملون حياتهم بشكل طبيعي , حاولت في سنين حياتي السابقة أن أترك أثراً طيباً في علاقاتي مع الناس الذين قابلتهم , و إن كنتُ قد غير منصفاً تجاه أحد ما بقصد أو بدون قصد فهذا يعني أنني كنت ضعيفاً وهذا يعني بالنهاية أنني إنسان يخطئ أحياناً ويصيب أحياناً أخرى, وهذا ليس مبرراً أبداً , أنا حقاً لستُ مثالياً ,أعترف بهذا , لا أحد كذلك, وأنا لست بصدد ذكر مواقفا معينة , ولكنني أحاول دائماً إصلاح أخطائي قدر الإمكان ,و أن أترك بصمة جيدة في حياة من أقابلهم مهما كانت فترة لقاءنا قصيرة , أن أترك إرثاً يذكرني الناس من خلاله , سواءً كان إرثاً فنيّاً , شعرياً , أو حتى إرثاً حياتياً يبقي ذكري في أذهان من عرفني بعد رحيلي عن هذا العالم.

لم أكن لوحدي , ولكنني لطالما أشعر أنني لوحدي :
إن من أصعب أنواع الوحدة هو وجود الناس من حولك , ورغم ذلك تشعر بأنك وحيد , هذا شعور اعتده منذ سنين طويلة وهو ليس وليد اللحظة , هذه العزلة الداخلية التي تنبع من حبنا للأشخاص من حولنا وليس العكس , ومن خوفنا من فقدهم وليس لأننا نأخذهم كأنهم من المسلّمات.
قد يكون هذا الشعور ناتجاً عن الوعي الزائد بما يحيط بنا , وعدم قدرة البعض على رؤية ما نرى , وانا لا أدعي المعرفة ولا أقول أنني أفضل من غيري , أنا فقط إنسان ذو نظرة مختلفة تجاه العالم.
قرأت مرة خاطرةً للشاعر السوري رياض الصالح الحسين رحمه الله يقول فيها :
“وأصدقائي كثيرون
الذين يُحبُّونني لا يتركونَ لي فرصةً للموت
والذين يكرهونني لا يتركونَ لي فرصةً للحياة.”

رسالتي :
منذ بداياتي في الكتابة عام 2010 , بدأت حواسي تشعر بنشوة التفريغ النفسي عندما أكتب و أعبّر عما أشعر به , و صرت أشعر أن رأسي يصبح أخف قليلاً عندما أكتر الشعر , إلى أن بدأت أرسم نوعاً مختلفاً من الرسم , هو نوع ذو شهرة قليلة في عالمنا العربي , وهو الرسم النفسي وقد أفردت له مقالة خاصة يمكنكم قراءتها “ هنا ” , ومؤخراً أصبح شعر الهايكو الياباني جزءاً كبيراً من حياتي , إذ أنقذني شعر الهايكو من الفوضى الداخلية من خلال توجهي القوي لحب الطبيعة وكل مافيها من عناصر جميلة .

ما الدافع من وراء هذه المقالة ؟:
انا أكتب هذا المقال لأنني لستُ قادراً على الكلام , وربما لم أعد أجد أذناً صاغية تفهم مايجول بخاطري بحق ,ولكن ربّما هناك شاب آخر في مكان ما يشعر بما أشعر به ,وكل من حوله يطلبون منه أن “يكون رجلاً” و أنه بخير و أنه لا يشعر بشيء سيء .
شعرتُ أنني لو كتبت هذا المقال ربما سيشعر هذا الشاب به , وسيشعر بأن أحداً ما فهمه ولو لم يقل له ذلك .
انا لا أشجع على المشاركة و”الفضفضة” , ولكن أشجع على أن تجد طريقة لتعيش بها ألمك دون أن تموت بسببه ,وهذه كانت طريقتي .. الكتابة.

ختاماً؟:
ليس لدي نهاية سعيدة لهذه القصة , ما زلتُ أسير في طريق ضبابي , أحمل همومي على ظهري ,وفي داخلي مازالت قوة ما تدفعني لأكمل هذا المسير.
انا لا أقول أن هذا الشيء صحيح أو غير صحيح , ولكن هذا أنا , أكتب لأن الورقة لا تطلق الاحكام عليك , ولا تقاطعك في منتصف الكلام , ولا تقول ” شد حالك” أو “كلّنا هيك “
إذا وصلتم إلى هنا , فشكراً لأنكم قرأتم ..
ولكن لا تسألوني ” لماذا لم تتحدث إلى أحد ما؟” , لأنه لا فائدة ترجى من ذلك حقاً .
دمتم بخير .